Monday, May 19, 2014


قصة اشواك ل سيد قطب رحمه الله

"أشواك" أنها تدور حول تجربة عاطفية بين شاب وفتاة انتهت بخِطبةٍ لم يُكْتَب لها الاستمرار، حلاوة الأسلوب الذي صيغت به الرواية وبراعة الكاتب في التعبير عن حرارةِ التجربة وجوِّهاالأسيان الذي يبعث على الحسرة!
كتب نقدًا لها في مجلة "الرسالة" القديمة كتبه وديع فلسطين، يأخذ على الرواية أشياء بحيث يخرج القارئ لهذا النقد بانطباع مؤدَّاه أنها ليست روايةً ذات شأن
بطلها، الذى أتصور أنه هو سيد قطب ذاته
تحكى ما وقع لكاتبها رغم أنى لا أذكر أننى قرأت فى أى من ترجمات سيد قطب أنه كان ينوى الزواج فخطب فتاة، وأوشك أن يعقد قرانه عليها، لكن الأمر لم ييلغ نهايته المرجوّة على غرار ما فى القصة. إلا أن بعض السمات الفارقة فى شخصية بطل الرواية هى نفسها تقريبا سمات شخصية سيد قطب: فكلاهما كاتب مشهور يكتب فى الصحف ويعرفه الناس، وله تأثير على نطاق واسع حتى إن البطل حين ذهب مع خطيبته إلى القسم للتبليغ عن أخيها الصغير الذى تأخرت به مربيته فى العودة إلى البيت واطلع الضابط على بطاقته أبدى ترحيبه به بوصفه كاتبا مرموقا يكتب فى الصحف الواسعة الانتشار. وكلاهما شاعر، وشاعر وجدانى. كما أن الاثنين كليهما ريفيان محافظان، كذلك فبطل الرواية يبدى، فى بعض المواقف، ما يوحى بأنه يرى فى الارتباط بالمرأة عقبة تعوقه عن بلوغ أهدافه فى الإصلاح، وهو ما يتفق مع ما نعرفه عن حياة سيد قطب من عدم زواجه مثلما انتهى الأمر بالبطل فى الرواية، إذ انتهت أحداثها بانفصاله عن خطيبته ليقابلها بعد بضع سنين وفى يدها ابنها، ويفاجأ بها تناديه بذات الاسم الذى كانا ينويان أن يسميا به أول ابن لهما حين كانا يستعدان للزواج، مما يدل على أنها كانت تحبه حقا وصدقا وأنه هو الذى أفسد حياته وحياتها بالشك بسبب بعض الأشياء التافهة التى ليس لها فى حد ذاتها خطر
لكن قطب لم يكن أيامها شابا لأنه يذكر فى الرواية أن فارق السن بينه وبين خطيبته عشر سنين. والحق أن عطفى عليه هو الذى يدفعنى إلى هذا القول لتصورى أنه لو كان تزوج من تلك الفتاة التى من الواضح أنه كان يحبها حبا شديدا فلربما لم تكن نهايته قد اتخذت هذ المنحى المأساوى، فالزواج والأولاد كفيلان فى كثير من الحالات بأن يهدئا من شدة الثورة والسخط على الأوضاع ويبصرا المصلح بالهوة الفاغرة فمها تحت أقدامه فيعمل بقدر طاقته على اجتنابها، ولربما استطاع أن يجد طريقة أخرى فى الدعوة إلى ما يؤمن به دون الاصطدام بغباء السلطة وانغلاق عقلها وانعدام مشاعرها وجلافتها وقسوتها
و"أشواك" من الروايات التى يبرز فيها العنصر التحليلى النفسى بروزا واضحا. لقد كان سيد قطب يغوص فى نفسية بطليه ويأخذنا معه فى رحلة الغوص ويطلعنا على كل ما يدور فى الأعماق حيث التيارات التحتية المتلاطمة التى لا يلحظها عين الواقف على شاطئ البحر. وهو يفعل ذلك فى براعة يحسد عليها، وفى خفة ورشاقة فنية ومقدرة على النظر إلى الأمر من كل وجوهه رغم ما يبدو من أنه هو بطل الرواية، ومن ثم كانت الخشية من أن ينسى نفسه ويأخذ جانب البطل ويدين الفتاة على طول الخط. إلا أنه لم يقع فى ذلك الشرك، فكان هذا دليلا على أنه روائى كبير يمسك بخيوط عمله فى أستاذية مكينة
. وهكذا يخذلنا مؤرخو الرواية فلا يذكرون شيئا عن تلك الرواية البديعة التى لا بد أن تظهر فى أية قائمة للرواية المصرية مهما يكن طبيعة تلك القائمة.
وهذه النزعة التحليلية تظهر مع اللحظة الأولى فى الرواية، وكأن صاحبها حريص على أن يرينا منذ البداية أنها رواية تحليلية لا مراء. وهذا هو الفصل الأول بحذافيره:
"حينما أمسك بيدهاليلبسها خاتم الخطوبة، في حفل من الأهل والأصدقــاء، وفي ضوء الأنوار الساطعة، وعلى أنغام الموسيقى في الحجرة المجاورة، أحس بيدها ترتعش متقلّصة في يده، ونظرفإذا دمعة تندّ من عينيها. شعرَ بشوكة حادة تنغرز في فؤاده، وغامت الدنيافي عينيه، وتوقّع شرا غامضا يوشك أن ينقضّ، بل شعر بالكارثة تظلله، وتغشى حياته. ولكنه تماسك، وأسرع يدعوها إلى المقصف المعد في مكان آخر، غير ملتفت لدعوة المدعوين!
وهنـاك، قبل أن يحضر أحد، نظرَ في عينيها المغرورقتين،فإذا هي تحاول بشدّة أن تبتسم، وتحاول أن تبدو خفيفة رشيقة كعهدها في غالب الأحيان. أمسك بيديها بين يديه، وحدق في وجهها، وهو يقول:
-ماذا؟
قالت:
-لا شيء!
قال:
-بل هناك أشياء. ويجب أن أعلم هذه الأشياء.
قالت:
- أوه! قلت: لا شيء. ثم اسكت! لقد بدأوا يحضرون!
قال:
- أسكت. على أن تعديني بكل شيء بعد انصرافهم.
قالت:
- وهو كذلك!
وكانوا قد أقبلوا يتغامزون، فسحبت يدها من يده متظاهرة بالدلال والخفة،كأنما كانا يتناجيان ويتعابثان في غفلة من عيون الرقباء.
...
قالت في لهجة مناورة:
-ولماذا تصر على أن هناك شيئا؟ ألا تتأثرالفتاة، وهي تقف في مفترق الطريق بين عهدين؟
قال في لهجة جادة:
-اسمعييا سميرة. إنني أعرفك جيدا، ولم تعد خافية منك تخفى عليّ. ولقد لاحظت تلكالنوبات التي تفجؤك وأنت معي في أبهج اللحظات، وهي علامة لا تخطيء على أن هناكشيئا. ثم إنني أحبك ذلك الحب الذي تعرفينه، وإن بين قلبي وقلبك تلك "الشيفرة"الخفية التي تجعل لكل دقة في فؤادك صداها القوي في فؤادي، فلا تحاولي أنتغالطيني أو تغالطي نفسك بعد اليوم.
فارقتها ابتسامتها، وخذلهاتماسكها، وغامت على وجهها سحابة من الأسى، وقالت في صوتٍ غائر كأنما ينبعثُ منأعماق هاوية:
-أعلم أنك تحبني فوق مقدور الإنسان، وهذا ما يعذب ضميري. ثم سكتت سكته رهيبة فتناول يدها في صمت، وهو يحس هول العاصفة تجتاح نفسهافتحطمها وتوشك أن تجتاح حياتهما جميعا، وحدّق بشدة في عينيها ونظر إليها مستزيدا!
قالت:
اغفر لي أن أقول لك كل شيء. إنني أثق بك ثقة عميقة، وأشعربمقدار حبك لي. ولو فتشت في قلبي لوجدت لك مثل هذا الشعور فيه. ولكن هنالك فيضميري أشواكا سأضع عليها يدك، وأترك لك التصرف فيها كما تريد.
قال:
-قولي كل شيء ولا تخـافي!
قالت:
لقد عزمت أن أقول.
...
في نهاية قصتها كانت تقول، وهي تهتز وتختلج: "وهذه الدمعة التي رأيتها لم يكن منها بد. كنتُ أشيّع بهاعهدا عزيزا. كان اللحن الموسيقي من حولي هو لحن الجنازة، أشيع به نعشه للمرةالأخيرة. والآن لقد انتهى!".
وحينما بلغت القصةإلى هذا الحد كان قد اعتزم في نفسه أمرا لا يدري كيف اعتزمه، ولا بأي شعور اتجهإليه. كان الفارق بينه وبين فتاته عشر سنوات، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصارأنه يشيخ. وكان يحبها حبا عنيفا مجنونا، ولكنه أحس في هذه اللحظات القصار أنهيحبها حبا سماويا شفيفا. وكان شديد الغيرة متوفز الإحساس، ولكنه أحس في هذهاللحظات القصـار أنه فوق العواطف البشرية، وفوق غرائز الإنسان. قالفي صـوت خفيض رتيب رهيب:
-يا بنيتي، إنني أعطف عليكما، فاعتمدي عليّوسأساعدكمـا!
قالت في دهشة:
- تساعدنا؟ وكيف؟
قال في توكيد:
- ستكونين له!
قالت في ذعر:

-وأنت؟
قال:
-سأكون لك منذ اليومأخا وصديقا!
قالت:
-وتضحي حبك لي كله، وماضيك معي كله، وجهدك من أجلي كله؟
قال:
- نعم أضحيه. ولا زلت على استعداد لغيره من التضحيات. أضحيهوأنا أعلم أنني ضحيت بالحياة!
قالت مبهورة:
-يا لله! إنك نبيل.بل أنت أنبل من إنسان.
وحينما أوى إلى فراشه انجلى عنه هذا الـخُـمَار المريح، وتنبّهت أعصـابه، وواجه كأنما هوّة تنفتح بين قدميه، وفجوةتفصـل شطري حياته، ومدى من العمر لا يقاس بالآباد!
لقد بنى في أحلامهعشهما المنتظر، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام، ولقد عاش هذه الأحلام عيشة الواقع،واستغرق في هذا الخيال، حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة! فأين هو الآن منهذه الأحلام؟
لقد أحسّ بالطعنة، وعرف أنه فقد الحلم القديم: حلمالحورية الهاربة التي سيقودها مغمضة العينين إلى العش المسحور بعد أن عاش في هذاالحلم عامين كاملين، وبعد أن سُحِر بها منذ اللقاء الأول، وأعدّ نفسه وأحاسيسه كلهالارتقاب اليوم الموعود.
وجد نفسه يبكي.
ثم أدركته رحمة اللهفنام!".
فانظر إلى هذا الصراع العنيف فى أغوار نفس البطل بين حبه العارم العنيف لخطيبته وبين مثاليته التى رأى أنها توجب عليه الانسحاب من الميدان بعد أن يجمع بينها وبين خطيبها الأول الذى كان هو يتصور أنها لا تزال تحبه، ومن ثم لن يستطيع أن يفوز بقلبها وحبها كاملا. وانظر كيف يظن فى البداية أن المسألة هينة، وأن القرار الذى اتخذه لن يسبب له أى ألم وأنه من ثم لا رجعة له فيه، بيد انه ما إن ينصرف ويعود إلى منزله ويخلو إلى نفسه حتى يتبين له ولنا أن هذا كله محض أوهام، وأن الأمر ليس بتلك السهولة التى ظنها وظنناها معه فى البداية. ولسوف نقرأ فى مواضع متعددة من الرواية مشاهد تحليلية كهذا المشهد، بل أبدع وأروع، إذ سوف يرينا كيف استولى حب الفتاة على قلب البطل استيلاء، لا بناء على كلام الرواى، بل من خلال التصرفات والحوارات والمواقف الحية. إننى كلما تذكرت وقائع الرواية وما انتهت عليه شعرت بحزن شديد وكدت أقول لسيد قطب، وكأنه جالس حيالى يكلمنى وأكلمه: لم فعلت بنفسك هذا وألقيت بتلك النعمة التى وهبكها الله دون أن تفكر فى العواقب العنيفة والآلام الرهيبة التى تألمتها، وحق لك أن تتألمها؟ ترى كيف سهل عليك أن تفرّط فى تلك الفتاة الجميلة الأنيقة المصقولة المتحضرة التى سرعان ما استجابت لك وانخرطت فى عالم القراءة الراقية وأخذت تناقشك فى كل ما تقرأ مناقشة الند للند، فضلا عن موهبتها فى العزف الموسيقى الذى كان يستبيك ويهدهد روحك ويطفئ نار غضبك وشكوكك؟ بالله ماذا كنت تريد أكثر من ذلك؟ يا خسارة! لقد وصفتَها أكثر من مرة بأنها "حورية". وهذا صحيح، وكنت لا أحب لك أن تفرّط فى حورية كهذه! لكن ماذا نقول سوى أنها الأقدار، وأنه لم يُكْتَب لك فى اللوح المحفوظ أن تفوز بها؟
اقرأ معى، أيها القارئ، هذه السطور التى وصف بها الرواى ما حدث إثر مشاهدة بطلى الرواية لفلم يشبه قصتهما، مما حرك فى نفس البطل المخاوف والشكوك، فعاد هو وخطيبته إلى بيتها محطم النفس مكتئبا، واسأل نفسك: أفلم يكن أجدر بالبطل أن ينظر إلى النعمة التى بين يديه ويحرص عليها ويشكر ربه بسببها ويعمل على أن يأخذ منها أكبر ما يستطيع من السعادة وراحة البال ويبتعد عن موجبات التنغيص والنكد؟: "هنا لم يطق صبرا على المواجهة، وخاف أن تخونه الكلمات، وأن تفضحه السمات، فانفلت إلى حجرة النوم.ولم يكن عليه من بأس في أن يرتاد من حُجَر الدار ما يشاء. لقد كان في حاجة لأن يستلقي ويستريح، كالرحالة المجهد المكدود في سفر طويل.لم يخلع ملابسه، ولم يخلع حذاءه، فما كانت له بقية من قوة يؤدي بها هذه الحركات. لقد كان حَسْبه أنيلمح السرير لينحط عليه كالجدار المنهار. وانقضت دقائق، ومناظرالرواية أمام عينيه، بينما ترنّ في أذنه كلمات الأم الطيبة القلب عن هذه الفترة الحلوة من الحياة. وينفلت زمام أعصابه، فلا يستطيع أن يضبطها لمواجهة هذه المفارقات. وفي هذه اللحظة تصل إلى سمعه من حجرة الجلوس نغمة البيانو.إنها تعزف، إنه لحنه المحبوب، لحنه المسحور.
لقد سمع هذا اللحن منقبل، وسمعه كثيرا، سمعه من تلك الفتاة نفسها، سمعها تعزفه فاستعاده واستعاده،وظل يستعيده في نشوة عجيبة، حتى قالت له في دعابة ساحرة: لن أعيده مرة أخرى إلالقاء أجر معلوم! لم يكن يعرف اسم اللحن ولا عنوانه، ولم تكن تعرفه هي كذلك. كان أستاذ البيانو قد حفّظها إياه دون أن يذكر لها عنوانه. فما قيمة الاسم والعنوان؟ إن هذا اللحن المجهول كان يستجيش ضمائره ويحرك خواطره ويثيرفي حسه النشوة والحلم واللهفة والانسياب. كان يصور نفسه في تلك الفترة التي لم يكن يعيش فيها على الأرض، ولم يكن يحس إلا أن الحياة حلم ظافر سعيد. لقدكان يحب. يحب هذه الفتاة التي تعزف ذلك اللحن وإنها لتعزفه بيدها وقلبها،وبأعصابها وملامحها. كانت هي اللحن ذاته في صورة مجسمة. ولم تكن قد برزت بَعْدُتلك الأشواك. ثم ها هي ذي تعزفه مرة أخرى. وإنه ليسري إلى نفسه رويدا رويدا، وينسكب في أعصابه رفيقا رفيقا، وإن نفسه لتهدأ وتطمئن،وإن أعصابه لتسكن
وتستريح، وإنه ليثمل، ثم ينتشي، ثم يرف في جو شاعري شفيف،وإنه لينتفض بعد لحظة خفيفا نشيطا، وإنه لينفلت إلى حجرة الجلوس ملهوفا مشتاقا،حتى إذا اقترب استرق السمع والنظر، فإذا هي، هي حلمه الجميل، هي حوريته الهاربة، هي، ولا شيء سوى الماضي العزيز، والثقة العميقة، والحب المفتون. هي، وإنه ليطوقها من الخلف في لهفة، فتبدو كأنما ذعرت للمفاجأة. المفاجأة التي كانت تنتظرها ولا شك بغريزتها العبقرية، غريزتها الفطنة التي توحي إليها في هذه اللحظات بالذات بالعمل المفرد الوحيد، الذي يجدي في مثل هذا الأوان.هي، وقدوجدها، ووجد نفسه، ووجد فيها ما يقال.وإن الحب ليعود اللحظة يحلم،وإن الحياة لهي في هذا الحلم الظافر السعيد!". لكن إبليس اللعين لا يرضى لابن آدم أبدا أن يستمتع بالسعادة! وكيف، وبينهما من العداوة ما لا ينساه أبدا ذلك الرجيم، وإن نسيه ابن آدم لغفلته ونسيانه الذى يجرى منه مجرى الدم فى العروق؟
أكتب هذا وقلبى يدمع، مع أن سيد قطب مات منذ زمن، ولا بد أن تكون الحورية قد لحقت به هى أيضا، أو تكون قد تجاوزت التسعين من عمرها
ولشديد الأسف نهاية الرواية هى هى لم تتغير فى شىء عن نهاية المؤلف رحمه الله
فقد أعد القدر سيد قطب لينهض بدور لا يستطيع غيره النهوض به، وإلا فكم واحدا يمكنه أن يسير إلى المشنقة فى رجولة وصلابة ورسوخ وإيمان لا يتلجلج وعدم التلفت إلى الماضى أو الأسف مجرد الأسف على ما وقع، بل مع الفرح الغامر لأنه سوف يلقى ربه ولم يبدّل تبديلا، سوى سيد قطب

علي السقاف جده

No comments: