Tuesday, May 20, 2014

الشريف الرضي.. في سماء الشعر

ديوان الشريف الرضي
في سنة (359هـ= 970م) ببغداد ولد محمد بن الحسين بن موسى، الملقب بالشريف الأجل، والشريف الرضي حيث كان نقيبا للأشراف. وينتهي نسبه من طرفيه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفي بغداد عاش وتتلمذ ونبغ وأشعر، وبها أيضا توفي.
كان فاضلا عالما شاعرا مبرّزا، وكانت له هيبة وجلالة، وفيه ورع وعصمة، عالي الهمة، شريف النفس، لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة، وكان عفيفا شريفا ملتزما بالدين وأحكامه.
وبجانب الشعر للشريف الرضي تآليف عديدة منها: المتشابه في القرآن، وحقائق التنزيل، وتفسير القرآن، والمجازات للآثار النبوية، وتعليق خلاف الفقهاء، ونهج البلاغة وكتاب مجازات القرآن، والزيادات في شعر أبي تمام، وانتخاب شعر ابن الحجاج، وهذا الإنتاج معلم على غزارة علمه وتبحره في العربية وعلومها.
الشريف الرضي.. شاعرًا
نظم الشريف الرضي الشعر في عهد الطفولة، وهو لم يبلغ عشر سنين؛ فأجاد ونظم في جميع فنون الشعر، وجاء محلقاً في سماء الشعر محرزاً قصب السبق. وأجاد في جميع أغراض الشعر العربي؛ وهذا ما يدلّ على غزارة مادته. كان ينظم قصائده بمنحةٍ نفسانية قلما تؤثر بها العوامل الخارجية.
وامتاز الرضي بأن شعره على كثرته يلبس ثوب الجودة والملاحة وهذا قلما يتفق لشاعر مكثر، بل لم يتفق لغيره.
وشعر الرضي صاف وجميل في كل الفنون. فهو عندما يهجو لا يستخدم الألفاظ النابية والكلمات المقذعة، وعندما يتغزل فليس كغيره، ولكن بأدب جم وبسمو أبعد عن كثير مما يتعاطاه الشعراء من الألفاظ الغرامية. ومن غزلياته قوله :
يـــا ليــلــة النــقـح هــلاّ عــــدت ثــانيةً ســــقى زمـــانــك هــطّــــال مـن الديم
مــاضٍ مــن العيـــش لا يغدى بذلت له كــــرائم المــــال مــن خيـــل ومن نعم
وظــبيةٌ مـــن ضـــباء الإنــس عـاطـلة تــستوقف العين بين الخمص والهضم
لـــو أنــها بــفنــــاء البـــيـت ســـانحـةٌ لصـــدتها وابــتدعت الصيد في الحرم
قعــــدت منـــها بـــلا رقــبى ولا حـــذر عـــلى الــــذي نــام على ليلي ولم أنم
بــتنا ضــجيعين فـي ثوبي هوى وتقى يـلفنـــا الشــــوق مـــن فـــرع إلى قدم
وفي الحماسة يعتبر الشريف الرضي شاعر الحماسة بلا منازع، ومن شعره الحماسي قوله:
نـــبـهتهم مــثـل عـوالي الـرمـاح إلى الـوغـى قبل نجوم الصباح
فــــــوارس نــالـوا المنـى بـالقـنا وصـافحوا أغراضهم بالصـفاح
يــــا نــفــس مــن هــم إلـى همةٍ فليـس من عبء الأذى مستراح
قـــــد آن لـــلـقــــلب الـــذي كـده طـــول منـاجاة المنـى أن يراح
لابـــــد أن أركــبــهــا صـــــــعبة وقــاحة تــحــــت غــــلام وقاح
وأشـــــعت المــفــرق ذي هـمــة طـــوّحـه الســـهم بعيـداً فـطاح
لـمــــا رأى الـصــبـر مـضــراً به راح ومــن لـم يـطـق الذل راح
دفــــعاً بصـدر الســيــف لما رأى ألا يــرد الضــــيم دفــع بــراح
حتـى أرى الأرض وقــد زلـــزلت بــعــارضٍ أغيــر دامي النواح
ومن شعره الفخري، قوله:
أنـا ابـن الأُلى أما دعوا إلى يوم معركِ أمـــدوا أنـــابــيــب القـــنـا بالمعـاصم
إذا نـــزلوا بــالمـاحـل اسـتنبتوا الربى وكــــانــوا نتـــاجاً لــلبـــطـــون العقائم
يـسيرون بالمسـعاة لا السـعي بالخطى ويــــرقــــون بـــالعــليـاء لا بـالســلالم
ومـــا فــيـهم إلا أمـــرؤ شـــــب نـاشئاً عـــلى نــمـــطي بيـضـاء من آل هاشم
فــتـى لـــم تــــوركه الإمـــاء ولـم تكن أعــاريــبه مـــدخــــولةً بــــالأعــــاجـم
إذا همَّ أعطـى نفـــســـه كــــل مــنــــيةٍ وقــعـقــع أبـــواب الأمــــور العـظــائم
وكــيــف أخـــاف الــليـــل أنـــي ركبته وبــيـــني وبيـن الليـل بيـض الصوارم
وكانت وفاة الرضي يوم (6 من محرم 406= 1 يوليو 1015م) في بغداد حيث دفن.


حياته الإجتماعية:
هو أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم المجاب ابن الإمام موسى الكاظم سابع أئمة أهل البيت عليهم السلام ، حيث يرتفع نسبه الطاهر إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام .
أما أمه فهي فاطمة بنت الناصر الصغير، أبي محمد الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الكبير ، صاحب الديلم ،ابن علي العسكري بن الحسن بن علي الأصغر بن عمر الأشرف ابن علي زين العابدين بن الإمام الحسين )ع( ، ولهذا كان الرضي يلقّب بذي الحسبين .
ولد ببغداد سنة359 هـ ،وتوفي فيها سنة406هـ وهو في السابعة والأربعين من عمره كان أبوه ذا إرادة قوية ، وأصالة رأي ، وكانت له منزلة عظيمة عند الخلفاء العباسيين والملوك البويهيين، تولى نقابة الطالبيين وإمارة الحج وديوان المظالم مرات، وكان فيها مثال العالم التقي العادل، ثم تولى الشريف الرضي وظائف أبيه جميعها ،بعد أن أعفي منها سنة 388هـ .
كانت للرضي صلة قوية ببهاء الدولة الذي أنعم عليه بألقاب كثيرة إضافة إلى لقبه السابق، منها : الشريف الجليل و ذو المنقبتين والشريف الأجلّ ، ولقبه بنقيب النقباء حين ولّاه النظر بأمور الطالبيبن في جميع أنحاء البلاد. وهذه المناصب والألقاب كلها تُعَدُّ دليلاً ساطعاً على عظمة الشريف، ومكانته المتميزة، وشخصيته الفذة، إذ كيف يتسنى لشخص أن يتولىكل هذه المناصب المهمة في عصر تعددت فيه الأهواء والميول دون أن يكون ذلك الشخص نادر المثال كالشريف .
حياته العلمية :
عرف الشريف بذكائه الوقاد ، وقدراته الخلاقة منذ يفاعته ، فقد قرأ القرآن وحفظه ، وهو حدث السن ، على إبراهيم بن احمد بن محمد الطبري . وانخرط في مدرسة شيخ الإمامية وعالمها الشهير أبي عبد الله محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد في سن مبكرة جداً ليتعلم منه الفقه . ودرس النحو على يد ابن السيرافي النحوي واللغة على يد ابن جني قبل أن أن يبلغ العاشرة من عمره
وهكذا فإننا نجد الشريف الرضي قد نهل من علوم العربية والدين وهو لمّا يبلغ الحلم بعد ، كل هذا نضيفه الى التربية الصالحة التي تلقاها في بيت علم وأدب ومجد وصلاح ، مما أهله فيما بعد ليحتل مكانه كبيرة في ميدان العلم والمعرفة فيؤسس داراً لطلبة العلم ، درس وتخرّج فيها كثير من العلماء والأدباء .

مؤلفاته :
أما مؤلفاته فإنها تدل على باع طويل وعلم غزير في علوم القرآن والأدب ، أهمها جمعه وتصنيفه لخطب وأقوال الإمام علي )ع( وسمه بنهج البلاغة وكان قد أعده ليكون القسم الأول من كتاب بعنوان ) خصائص الأئمة ( والذي حال دون إكماله محاجزات الزمان ومماطلات الأيام .وله في بلاغة القرآن حقائق التأويل في متشابه التنزيل ( و ) تلخيص البيان في مجازات القرآن ( وفي بلاغة الحديث النبوي الشريف ) مجازات الآثار النبوية ( ومن كتبه في الأدب : كتاب ) الحسن من شعر الحسين ( وهو منتخب أشعار الحسين بن الحجاج الشاعر المعروف المتوفى سنة 391هـ ، وكتاب ) مختار شعر أبي إسحاق الصابي ) وغيرها كثير . أما ديوان شعره فقد اعتنى الشريف بجمعه بنفسه ، وكان قد طلبه منه الصاحب بن عباد ، وابنة سيف الدولة الحمداني ، كما قام بشرحه في حياته أستاذه ابن جني . وقد مدح هؤلاء عرفاناً منه ، ورثاهم وفاءً وتقديراً .وديوانه اليوم يضم مجلدين كبيرين .نماذج لاشعارة الغزلية
فمن منّا سمع بكلام أصدق من هذا قولاً ، وأعذب لفظاً ، وأروع تصويراً ، وأحلى وقعاً في القلب ، حيث يقول:
ولقـد مـررتُ على ديارِهمُ و طُلـولها بِيَـدِ البِلى نَهْـبُ
فوقفتُ حتى ضَـجّ من لغَبٍ نِضوي ولـجّ بعذليَ الرّكْـبُ
وتلفّتتْ عيـني ومُذْ خَفِيَـتْ عنْها الطُّـلولُ تلفّتَ القلْـبُ
أو حين يقول:
يا ضبيةَ البانِ تَرعـى في خمائلِه ليَهنِـكِ اليومَ أن القلبَ مرعاكِ
المـاءُ عندكِ مبذولٌ لشـاربهِ وليسَ يرويكِ إلاّ مَدمعي الباكي
هبّتْ لنا من رياح الغـَورِ رائحةٌ بعدَ الرُّقـادِ عَرفنـاها بِرَيّـاكِ
ثم انثـنَينا إذا ما هـزّنا طـربٌ على الرحال ، تعلّلنا بذكـراكِ
سهمٌ أصابَ و راميه بذي سـلمٍ من بالعراق ، لقد أبعدت مرماكِ
وعدٌ لعينيك عندي ما وفَيتِ بـهِ يا قربَ ما كذَبتْ عيْنيّ عينـاكِ
حكتْ لحاظُك ما في الريمِ من مُلَحٍ يومَ اللقاءِ فكان الفضلُ للحاكي
كأنّ طرفَك يومَ الجِـزعِ يُخبرُنا بما طوَى عنكِ من أسماءِ قَتْـلاكِ
أنتِ النّعيـمُ لِقلبي والعذابُ لَـهُ فما أمَرّكِ في قَلْـبي و أحـلاكِ
 الشريف الرضي.. في سماء الشعر
هذا الموضوع هو تكملة للموضوع اعلاه

الشريف الرضي وأ بو اسحق الصابي ، صداقة خـلـّدهـا التاريخ
اورد موجز لصداقة متينة رغم اختلاف الد يانة وهي تد ل على التسامح والاخلاق الكريمة
والتي للاسف انعد مت في هذا الزمان اهد يها الى كل من يبحث عن صد يق صد وق

بُنيت صداقة الشريف الرضي وأبو إسحق الصابي على روح المحبة والإيثار والسماحة والفضل الذي ناسب بين الصديقين والذي كتب لصداقتهما أن تعيش بعمرهما ويبقى ذكرها مقرونا بإسميهما، فإستحقت الوقوف عندها إستجلاء لما كان أثناءها وبعدها فيما تميزت به من خصال وما جعلها تذكرعند المثال. ومن ذاك:

1- أنها لم تقم على تقارب في السن بين الشريف الرضي وأبو إسحق ، فالأول شاب في مقتبل العمروالثاني كبير السن. فما جمع إذن هو هذا التقدير المتبادل لما يملكه الإثنان من طباع مشتركة ولغة متناسبة وعلو شأن وأهليّة لم يساعد الزمان على أن تأخذ موقعها فترى أبا إسحق ، وهو في شيخوخته، يعتذر للشريف الرضي حين لا يستطيع زيارته المعتادة والمتبادلة فيقول:
أقعدتــــنا زمانـــةٌ وزمـــــــــــــانُ جــائرٌ عــن قضاء حــق الشريفِ
ويأتي رد الشريف الرضي مبرزاً قيمة صداقتهما وعمقها،
ولو أنّ لي يومــاً على الدهر إمرةً وكان ليّ العدوى على الحدثــــان
خلعتُ على عطفيك بُرد شبيبتـــي جَواداً بعمري وإقتبال زمـــــــاني
وحَمّلتُ ثقل الشيب عنك مفــارقي وإن فَلّ من غربي وغضّ عنـاني
ونابَ طويلاً عنك في كُل عـارضٍ بخطٍ وخطوٍ أخمصي وبنـــــانـي
2- إختلاف ديانة الصديقين . فالشريف الرضي هو أبو الحسن محمد بن الحسين النقيب الموسوي الممتد نسبه الى الرسول محمد(ص). وأبو إسحق هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حيون من الصابئين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم في سورة البقرة والحج والمائدة بإعتبارهم من الموحدين وذوي الكتاب. ومقابل نسب الشريف الرضي كان إلتزام الصابي بديانته حسبما يُذكر، فقد عرض عليه عز الدولة بختيار البويهي الوزارة إن أسلم، لكنه بقي على ديانته. لم تجمع بين الصديقين إذاً عُصبة الدين، وبالمقابل فإنهما قـّدما الدرس الطيب في الإحترام المتبادل كلٌ لعقيدة الآخر طالما أن الجامع هو الإيمان بالله وتوحيده. وكان وعي الصديقين لهذا الأمر عالياً وتحملا كل ما يمكن أن يكون سهما ً للنيل من هذه الصداقة من هذا المدخل. بل أن هذا الأمر كان درساً في التسامح والتواد والدليل على أن السمات المشتركة التي يبنى عليها التقارب والتواد يمكن أن تتخطى عصبة الدين على أن لا تخالفه. وتقدير الصديقين لهذا الأمر كان بارزاً. تأمل ما يقوله الصابي عارفاً ومقيًماً نسب الشريف الرضي، بل وأحقيته في الخلافة :

ألا أبلغا فرعــاً نمَتهُ عُروقـــهُ الى كل ســام ٍ للمفاخــر بــانِ
محمّداً المحمــود من آل أحمـد أبا كل بكـر في العُلى وعوان
وقوله:
أبا حسن لي في الرجالِ فراسةٌ تعودتُ منها أن تقولَ فتصدقـا
وقد خبرتني عنك أنّك مـــــاجدٌ سترقى من العليا أبعـد مرتقى
فوفيتك التعظيم قبل أوانـــــــــه وقلت أطال الله للسيـد البقـــــا
3- كانت صداقة بين رأسين في صنعة واحدة، تلك هي صناعة الأدب شعراً ونثرا. وغالبا ما يجُر التقدم في الصنعة صاحبها الى التنافس مع من هو رأس فيها. والأمثلة في هذا المجال كثيرة أوضحها ما كان بين الشاعرين جرير والفرزدق. الا ّ أننا نجد أن ما جمع بين الشريف الرضي وأبي إسحق كان كبيرا في جملة أمور، بل أ ن علو شأنهما في الأدب كان يصب في بحر صداقتهما ليزيدها عمقاً وإتساعاً وديمومة. وكان من قيمة الصداقة أن يسعى كل منهما لدى الآخر في صنعته كي يقتني قينةً منه. فهذا الشريف الرضي ينفذ ُ رُقعاً لأبي إسحق يسأله فيها إنشاء عهد له يقدمه للخليفة العباسي الطائع لله في أمر نقابة الطالبيين يوضح أغراض العهد بكلام بهي. ويتعهد الصابي أن يُنشأ عن الشريف الرضي وبلسانه. وإذ يُنفّذ الصابي ما يطلبه الرضي يقدمه متواضعا وهو يقول له في أمر ما طلب: " .. والله يا سيدي لو كتبت أنت ما إستكتبتنيه، وكفيت نفسك ما إستكفيتنيه، لكنت أجرأ مني يداً ولساناً، وأطول شأواً وميدانا وأكثر إصابة وإحساناً..". ويكتب الصابي مرة أخرى مجيباً الرضي بعد أن إستجاب لطلب آخر في إنشاء رقعة أخرى للخليفة الطائع لله
4- - إنها صداقة غير مبنية على مصالح ذاتية. فالشريف الرضي سيد قومه، نقيب الطالبيين والناظر في مصالح المساجد والتسيير بالحجيج في أيام المواسم. وأبو إسحق الصابي صاحب ديوان الإنشاء وصانع الكلام الذي ذاع صيته وأصبح نادرة زمانه في البلاغة وعلو مكانته الى الحد الذي طُلب الى الوزارة لولا تمنعه. وهو القائل:

ولي فِقرٌ تضحى الملوك فقيـــرة اليها لدى إحداثها حين تطـرقُ
أردُّ بها رأس الجمــــوح فينثنـي وأجعلها سوط الحـرون فيُعتق

ويؤيده الشريف الرضي بذلك تماما حين يرثيه بإعتماد معنى هذين البيتين حين يقول:
فِقرٌ بها تُمسي الملوك فقيــــــرةً أبداً الى مبــداً لهـــــا ومعــــادِ
وتكون سوطــا للحرون إذا ونى وعنانَ عُنق الجامح المتمادي

إذن، ما جمع بين الصديقين كان أسمى من أية مصلحة سائلة، وأرقى من ذاتيات زائلة قد تهدد كيان هذه الصداقة في حال قلتها أو عدم تحققها، بل يمكن أن تكون مدخللاً للنيل منها بالرغبة أو الغلبة.. وكان ذاك وراء أن تدوم هذه الصداقة رغم تقلب الأحوال وبخاصة بعد النكبة التي تعرض لها الصابي في عهد عضد الدولة، وما ذاك الاّ لأن بناءها كان على أُسس روحية متينة وغير طمعية المقصد. تأمل مخاطبة الشريف الرضي للصابي لتقف على ما ذهبنا اليه في أخائهما:

أخاء تساوى فيه أنساً وإلفــــــــةً رضيعُ صفاء أو رضيع لِبـــــــــان
تمازج قلبـــانا مــــــزاج أخــــوة وكلُ طلـــوبي غايــــةً أخـــــــوان
وغيــرك ينبـو عنه طرفي مجانبا وأن كــان منــي الأقربَ المتــداني
وربَّ قريبً بالعـــداوة شاحـــــط وربَّ بعيــــدً بالمــــــــــــودة داني

بل أنظر كيف يرى الشريف بصديقه السلو عن آخرين لما وجده من إجحاف أو مصلحيّة، فيقول:

فلولا أبو أسحــاق قــل تشبثــي بخــلٍ وضربي عنـــده بجــــران
هو اللافتي عن ذا الزمان وأهله بشيمـــــة لا وان ِ ولا متـــــواني

وهو الذي يجيب الصابي رداً على تهنئة الأخير له بعيد الفطر".. وتهنأت به دون التهاني كلها ووعدته أمام المسار بأجمعها، علماً أنّ دعاءهُ، أدام عزه، لي وتهنئته إياي يصدران عن قلب غير متقلب وود غير متشعب.. وإلى الله أرغب في إيناسي ببقائه ، وصلة جناحي أبداً بأخائه .. والشوق يجذبني اليه كما يجذبة اليّ، والنزاع يهفو بي نحوه كما يهفو به نحوي.. ولم لا وقد وضعنا قدمينا في قبال واحد، وإستهمنا في طارف من الأدب تالد، ووالله إنني لأتمنى أن ينفرج له صدري إنفراجةً فيرى فيه مكانه المكين ووده المصون، اللذين لا يشاركه فيهما مشارك ولا يملك موضعه منهما مالك."


ويرى الشريف الرضي في الفضل الذي ناسب بين الصديقين أساس الأسس وهو بذلك يرد على من قلل من قيمة أساس تلك الصداقة، فيقول في مرثيته العصماء للصابي:

الفضـــل ناسب بينــنا إن لم يكـن شرفي مــناسبه ولا ميـــلادي
إِلا تــكن من أُســرتي وعشـائري فلأنت أعلـقهم يــداً بــــودادي
أو لا تكن عالي الأصول فقد وفى عِظــمُ الجدود بسؤدد الأجــداد
وقوله:
مَن مبلغ لي أبـــا إسحاق مألــكةً عن حنو قلبً سليم الســرِ والعلـــــن ِ
جرى الوداد له مني وإن بعُــدت منّا العلآئقُ مجرى الماء في الغُصن
لقد توامــــقَ قلبانــــا كأنهمــــــا تراضعا بــــدم الأحشــاء لا اللبــــن
5- إنها صداقة دامت ردحها على مدى حياة الصديقين دون أن تشوبها شائبة أو تعيبها عائبة، وهي قد إمتدت طويلاً حتى وافى الصابي الأجل قبل صديقه. ولم يفسح رجحان عقلي الصديقين المجال أمام أية محاولة للنيل من هذه الصداقة أو تعطيلها، فقد إمتدت متبادلة بروح سماحة وتبادل مجالسة ومخاطبة. فمع إنشغال الشريف الرضي تجده يتوق لمجالسة صديقه
6- عمق هذه الصداقة وتعدد أبعادها وشموليتها إدراكا بأنها مؤسسة على قيم الأصالة وشيم الصدق والعدالة وكانت دعائمها عديدة حتى في هموم الدنيا وجور الزمان فلا يتحرج الصابي من شكواه لصديقه ما فعل الزمان به حين يقول:

قد كنت أخطو فصرت أمطــــــو وزاد ضعفي فصرت أُعطـــــو
خانت عهودي يـدي ورجلـــــي فليس خطـــوٌ وليس خـــــــــطُ
هاتيك حالي فهــــــل لعـــــذري إذا تأخــرت عنـــــك بســـــــط

ويظل الصابي يتوق لرؤية صديقه حتى أيامه الأخيرة، إذ يذكر الثعالبي في يتيمة الدهر أن قصيدة أبا إسحق للشريف الرضي التي مطلعها " أبا كل شيء قيل في وصفه حسن.." بينها وبين وفاة الصابي إثنا عشر يوماً، ولعلها آخر أشعاره. وبهذا فإنه يختم بلاغته بمناجاة صديقه وفيها يقول:

أقيك الردئ ليس القِلى عنك مُقعــدي ولـــــكن دهانـــي بالزمـانـــة ذا الــزمن
فإن تنأ عنك الدار فالذكر مــا نــــاى وإن بان مني الشخــص فالشوق لم يبن
وإن طال عهـد الإلتقــــاء فــدونـــــه عهــود عليهـــا من رعــايتنـــا جُنــــــن
وبحقوق تلك الصداقة وإخائها، فإن أبا اسحق لا يتوانى، بعد أن أدرك قرب منيته، في أن يوصي الشريف الرضي بأهله وبنيه، وما ذاك الاّ إدراكا لإيفاء الرضي وصيانته لحقوق الصداقة وطيب العلاقة وأن يجد الصابي في صديقه أفضل الذخر الذي يذخره لخلفه فيوصيـــه:

هو الأجل المحـــتوم لي جَــد جِـدهُ وكــــان يــــــــُريني غفلــة المتـــواني
هنالك فاحفظ في بنــــيّ أذمتــــــي وذد عنهُـــم روعــات كـــــل زمـــــان
فإني أعتـــدّ المــودّة منــك لـــــــي حُسامــا بــه يقضون فــي الحــدثــــان
ذخرت لهــم منــك السجــايا وإنهـا لأَنفـــــــع مــــــــمّا يــذخر الأ بــــوان

وتجد الوصية كل القبول والإمتثال من قبل الشريف الرضي فيتعهد لصديقه الصابي ويقول:

وإنك ما إسترعيت مني سوى فتـىً ضمومٍ على رعي الأمــانة حـــان
حفيظٍ إذا ما ضيّــع المــرء قومـــه وفي ٍ إذا مــا خـــــُوّن العضــــدان
وحمداً لله إن وفاة الصابي كانت قبل وفاة صديقه ليُرزق الأدب بمرثية للشريف الرضي في صديقه يصفها الثعالبي بأنها " قصيدة فريدة أفصح بها بُعد شأوه في الشعر وعلو محله في كرم العهد، وقد تميزت بحسن ديباجتها وكثرة رونقها وجودة ألفاظها ومعانيها". وقد تـّوج الشريف الرضي بهذه القصيدة الصداقة التي ربطته بأبي إسحق فكانت بحق مأثرة تَغنّى بقيمها ومعانيها وألفاظها الكثيرون، ولا شك أن الجميع يذكر إستهلالها:

أعلمتَ مَن حمـــلوا على الأعــــــواد؟ أرأيت كـــيف خبــا ضياء النـادي؟
جبلٌ هـوى لو خــرَّ في البــر إغتـدى مـــــــن وقعــه متتــابع الأزبــــاد
هـــذا أبو إسحـــــــق يغلق رهنـــــــه هـــل ذائـــد أو مــانع أو فـــــــادي
إن الدمــوع عليــك غيـــر بخيلـــــــةٍ والقلب بالسلــــوان غيـــرُ جــــواد
ياليــت أني ما إقتنيــتك صـــاحبــــــاً كــم قنيــــةٍ جلبت أسـىً لفــــؤادي

علي السقاف جدة

No comments: