Thursday, June 5, 2014


    الشيوعية .. تاريخ

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
في كتابه الجديد "الشيوعية.. تاريخ" لا يجامل ريتشارد بايبس الشيوعية. ولا يقدم لدارسي الفكر السياسي, أو القراء العاديين الراغبين في فهم جذور ومزايا مختلف المذاهب السياسية أي شيء يتجاوز الكم الكبير من الأمثلة التحذيرية التي تظهر لهم خلو الشيوعية كمذهب من أي جانب عملي وعدم صلاحيتها للتطبيق. وقد اختار المؤلف أن يستهل كتابه بهذه الجملة القاطعة "هذا الكتاب عبارة عن مقدمة للشيوعية, هو في الوقت نفسه, نعي لها
وتكمن أهمية الكتاب, رغم عدم خلوه من هنات, في أنه يقدم صورة بانورامية للشيوعية وتاريخها القصير في كتاب من الحجم القصير, يمكن أن يُطالع بسرعة ولا يفترض في قارئه الاختصاص. على وجه العموم قد تكون الشيوعية بكل ما انطوت عليه من أهداف وتطلعات قد ماتت وانتهت. لكن الأدب الشيوعي والاشتراكي والماركسي الذي خلفته وراءها والذي شارك فيه كتاب متعددون على مدى مائة وخمسين عاما أكبر من أن يدفن مع تلك الحركة التي سيطرت في يوم من الأيام على نصف العالم أو أكثر والتي كانت, على حد قول جوشوا مورافتشيك، أوسع الأفكار السياسية التي ابتدعها الإنسان انتشارا وشعبية.
وما من شك في أن انتشار الشيوعية, وربيبتها الاشتراكية, لا يمكن أن يعتبر مؤشرا على صلاحيتها للتطبيق العملي كمنهج للعمل السياسي. لكنه يشير إلى أنها ربما كانت, أو أنها كانت بالفعل, وسيلة لإرضاء توق الإنسان إلى النظام والجماعة والعدالة الاجتماعية والحياة المبرمجة. إلا أنها عند وضعها موضع التنفيذ, أظهرت أن كل ما بشرت به من برامج لم يكن سوى خيال حالم جميل.
ذروة الدموية في ذروة المثالية
لقد دمرت الأخطاء التي ارتكبها الساسة في القرن العشرين حياة ملايين الأشخاص في محاولات كانت تهدف إلى فرض مذاهب سياسية لم تكن قابلة للتطبيق. وليس بالإمكان وصف كتاب بايبس بأنه نوع من التاريخ الأخلاقي. أو أنه مجرد تسجيل لسلسلة المحاولات التي جرت خلال المائة عام الأخيرة من أجل وضع النظرية الشيوعية موضع التطبيق. كما أن مؤلفه لم يستطع أن يتجرد من الانحياز الذي لا يؤهل كتابه لاستيفاء المتطلبات الموضوعية التي يراها البعض شرطا أساسيا من شروط كتابة التاريخ. لكنه كتاب يستحق أن يقرأه الشبان والأشخاص المثاليون الذين يمكن أن تتضاعف فائدتهم منه لو أنهم قرأوه إلى جانب كتب أخرى تروي لهم الحكاية نفسها من منظور أكثر تعاطفا، حيث أن من الأهمية بمكان أن يدرك المرء أن المثالية في السياسة يمكن أن تتخذ أشكالا فظيعة, لعل أسوأها الرغبة في إملاء الكيفية التي ينبغي للناس أن يعيشوا بها حياتهم.
وكما ذكر الكاتب ألجيس فاليوناس فإن "الأشخاص لا يبلغون ذروة الدموية إلا عندما تتسلط عليهم فكرة تحقيق الخير المطلق. لأن الثقة بكون المرء يعرف الطريق السديد الوحيد الذي ينبغي للبشرية أن تسلكه تدفع المرء إلى الدموية, إذ لن يكون بمقدوره السماح لمن يعارضه أو يختلف معه بأن يعيق مسيرة الجنس البشري باتجاه السعادة التي يرى أنها بانتظاره."
ولعل هذه الخلاصة الفلسفية العميقة هي أفضل ما يخلص به المرء من قراءة الكتاب, وهي خلاصة ليست خاصة بالشيوعية وحسب بل تنطبق على تاريخ المبادئ والعقائد والفلسفات التي حاولت أن تصوغ طريقا قسريا للسعادة البشرية وتجبر الإنسان على الورود فيه.
ويتوسع بايبس في التأصيل لهذه الفكرة وربما جاز القول أن المقدمة التي وضعها لكتابه والفصل الأول الذي استهله به يشكلان أفضل أجزاء الكتاب, حيث يسوق فيهما عددا من الحجج اللاذعة التي تميز ما بين مثالية الشيوعية وبرنامجها من جهة والأنظمة الشيوعية كما قامت بالفعل من جهة أخرى.
وهو يرى كيف حاول بعض أنصار الفكر الاشتراكي الربط بين الماركسية والرغبة الإنسانية التي وجدت أول تعبير لها في كتاب "الجمهورية" لأفلاطون, في تحقيق المساواة بين بني الإنسان, وفي إقامة مجتمع يعمل الجميع فيه معا ويتشاركون فيه بالتمتع بثمار جهدهم.
داروين وماركس وإنجلز
ثم جاء ماركس وإنجلز ومعهما "البيان الشيوعي" الذي أصدراه. وهنا من المهم الإشارة إلى أن تشارلز داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء وأصل الأنواع كان قد سبقهما بالظهور. وثلاثتهم كما غيرهم انتظموا في خط "الحقيقة العلمية الموضوعية" التي كانت بوصلة المفكرين والباحثين في تلك الحقبة.
ويرى بايبس أن استخدام ماركس وإنجلز لمصطلح "الاشتراكية العلمية" كصفة للمذهب الذي جاءا به لم يأت من فراغ. حيث كانت العلوم الطبيعية قد اكتسبت مكانة عالية خلال القرن التاسع عشر, وباتت تشير إلى أن اليوم الذي ستتمكن فيه من كشف كل القوانين والحقائق المتعلقة بالوجود البشري قادم لا محالة.
في كتابه "أصل الأنواع" قال داروين بنشوء أنواع بيولوجية نتيجة لعملية الانتخاب الطبيعي التي مكنت تلك الأنواع من التكيف على نحو أفضل لبيئة معادية. وقد كانت العملية "دينامية رفعت أنواعا من الكائنات الحية من مرتبة أدنى إلى مرتبة أعلى تبعا لقوانين محددة."
وقد أكد مذهب "الاشتراكية العلمية" الذي جاء به ماركس وإنجلز على أن مجتمع المساواة المجرد من الملكية ليس بالأمر الذي سوف يتحقق بفعل الارتقاء الطبيعي للاقتصاد, إنما هو ما ينبغي له أن يتحقق. فالأفعال الإنسانية, حسب مفاهيم الاشتراكية العلمية, يمكن أن تعجل الارتقاء الاجتماعي أو تؤخره, لكنها لا تستطيع أن تغير اتجاهه الذي يعتمد على عوامل موضوعية.
هذا "الاتجاه" الذي يفترض به أن يكون مستندا إلى "عوامل موضوعية" والذي رأى فيه ماركس وإنجلز الانهيار النهائي للرأسمالية بسبب تناقضاتها الداخلية وارتقاء الشيوعية, لم يتحقق على أرض الواقع ولم تأت به مسيرة التاريخ. لكن هذه الحقيقة لا تزعج المؤمنين بالمذهب الشيوعي.
كانت روسيا أول بلد يطبق النظام الشيوعي عام 1917 حيث استخدمت كامل صلاحيات الدولة وقوتها لتطبيق المثال الشيوعي. ثم تبعتها دول أخرى تحولت إلى الشيوعية خلال القرن العشرين. مثلت أغلبية تلك الأنظمة أسوأ ما عرفه التاريخ الإنساني من أنظمة سياسية. ووثق المؤرخون الفظائع التي ارتكبت في عهد لينين وستالين. لكن روسيا تمتعت أواسط القرن الماضي بنفوذ ومكانة كبيرين خصوصا في نظر مثقفي الغرب. ويخصص بايبس فصلين من كتابه لروسيا الشيوعية, إلا أن القارئ لا يجد فيهما الكثير مما يمكن أن يثير دهشة أي شخص ملم بتاريخ تلك الدولة في القرن العشرين.
يستعرض المؤلف أيضا بقية الدول الشيوعية في القرن العشرين, ويتناول عدم احترامها للحياة الإنسانية وللتنوع الفكري, وخنقها لحرية الكلام والسيطرة المحكمة التي مارستها ليس على أفكار الناس السياسية فحسب إنما على مجموع حياتهم, وإخضاع التعبير الفني لقواعد صارمة ومذاهب مصممة لترويج القضية الاشتراكية, وتشويه اللغة بالكلام المزدوج والتعابير الفارغة, وعدم كفاءة الأنظمة الاقتصادية، وما إلى ذلك من عوامل أدت في النهاية إلى انهيارها. وفي الكتاب دعوة إلى مراجعة هذه الأمور جميعا, واستيعاب الدروس المستخلصة منها, والحكم بأمانة وإخلاص على ما تقدمه من أدلة.
ولعل أفضل الأفكار التي طرحها المؤلف تلك التي ساقها في الفصل الأخير منه وتتعلق بالامتلاك. يقول بايبس "إن الرغبة في الامتلاك تولد مع المرء، أما احترام ما يمتلكه الآخرون فأمر خاضع للتعلم". وقد حاولت الشيوعية عبثا عن طريق التربية والتعليم أو عن طريق القسر والإكراه أن تجتث غريزة الامتلاك التي تولدت مع الإنسان.
"الشيوعية.. تاريخ" كتاب جيد, لكنه يلتزم أسلوب النقض والتفنيد ويعاني من حشر الكثير من التفاصيل في فصول قصيرة. لكن تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب لا يبرز كامل قدرات بايبس العلمية, ولعل على من يريد أن يتعرف على قدراته في أحسن صورها, أن يقرأ إلى جانب هذا الكتاب مقالته الموسومة "الملكية الخاصة والحرية وحكم القانون".

No comments: